“ساحة التحرير” الميدان الأشهر ببغداد يبرز العمل الفني النحتي “نصب الحرية” للفنان جواد سليم المولود في سنة 1920 بأنقرة من عائلة مولعة بالفن؛ فأبوه سليم الموصلي فنان تشكيلي ووالدته البغدادية نحاتة وجميع أخوته فنانون تشكيليون.
في سنة 1931 فاز جواد سليم بالجائزة الفضية في النحت في أول معرض للفنون ببغداد، وفي عام 1938 أرسل في بعثة دراسية إلى باريس في معهد “البوزار”، وبعد عام انتقل إلى روما. وبعد عودته إلى بغداد عمل مدرساً للنحت في معهد الفنون الجميلة ومرمماً للتحف الآشورية والسومرية، وفي عام 1946 واصل دراسته الفنية في انكلترا على يد الفنان “هنري مور” في مدرسة “سليد” بلندن، وعندما عاد إلى بغداد في عام 1949 بصحبة زوجته الانكليزية الفنانة “لورنا سليم” عمل مرة أخرى في معهد الفنون الجميلة وأسس قسم النحت. وفي عام 1951 أسس “جماعة الفن الحديث” مع مجموعة من الفنانين.
عمله الأهم “نصب الحرية” بدأ بدراسات أولية في عام 1959 بطلب من رئيس جمهورية العراق آنذاك عبدالكريم قاسم الذي أراده نصباً للثورة، “وأوحى له أنه يريد وضع صورته فيه، لكن جواد سليم أراد من النصب أن يمثل ثورة أرادها الشعب” وذلك كما يورد الفنان طلال معلا. بعد سنة سافر إلى فلورنسا بإيطاليا لصب أجزاء النصب. وفي مطلع عام 1961 عاد إلى بغداد، وفي أثناء عمله في تركيب قطع النصب في أماكنها بساحة التحرير أصيب بنوبة قلبية.. وبعد عشرة أيام توفي في 23 يناير 1961.
::. جواد سليم ونوري الراوي
اتسمت تجربته بالقلق والتمرد، وتبلورت من أسئلة جوهرية حيال التراث والمعاصرة، فكلمته الشهيرة “الشك أساس اليقين” وأيضاً كلمته “لا تهمني السياسة بقدر الإنسان” كانتا أساس بحثه في هذه المواضيع. وقد استلهم جواد سليم لوحاته البغدادية من نسيج رسوم الواسطي مستثمراً بعض الرموز البغدادية الإسلامية كالأهلة والأقواس والأبواب، ومن المعطيات التاريخية والروحية للناس والأمكنة، واستوحى أجواء حكايات “ألف ليلة وليلة” التي رسم عدداً من موضوعاتها، وتتصف لوحاته بالبعد عن الزخرفة والتزويق.لكن استثمار جواد سليم للهلال لم يكن بتأثيرات إسلامية فقط وإنما كان -الهلال- رمزاً للإله “نانا” السومري الذي تمثل في كل حضارات الشرق والعالم. فالهلال أو القمر يرتبط كمنظومة رمزية بسلطة الألوهة المؤنثة وبنظام الخصب والانبعاث، فالخصوبة لا يمكن عزلها عن المرأة والزراعة، واهتمامه بالخصب يؤكد بقاء هذه المنظومة وإن تغيرت العلامات الدالة عليها كما في لوحة “الشجرة القتيلة” حيث يمارس الرجل -الذي يمثل السلطة الشمسية- عنفاً مادياً ورمزياً على الشجرة بتقطيعها لتعطيل الوظائف الزراعية أو الأنثوية أو القمرية، فتواجه الأنثى الكارثة بالبكاء والحزن، وينتهي الصراع بانتصار الرجل باقتطاعه لأغصان الشجرة. لكنه ليس انتصاراً ناجزاً، فالأم ببطنها المنتفخ، وجذور الشجرة التي ظلت ممتدة في الأرض تشيران إلى الخصب وتعبر عن الدورة الانبعاثية مرة أخرى.
ومن العناصر الأسطورية التي استثمرها جواد سليم في أعماله الفنية: الثور المتمركز في نصب الحرية، فالثور هو رمز للقوة، لكنه أيضاً عنصر في نظام الخصب وله علاقة بالألوهة المؤنثة. فعندما دخل جلجامش مدينة (أوروك) مع صديقه أنكيدو عائداً من نصره على غابة الأرز وهي رمز للأم الكبرى، التقى جلجامش بالإلهة عشتار فتوسلت له أن يقترن بها ويمنحها بذرته فلم يستجب، بل إنه تحدث معها بقسوة، فأدركت عشتار بأن القطيعة حصلت بينهما، فطلبت من أبيها آنو أن ينزل لها الثور السماوي كي ينتقم من جلجامش وأنكيدو، فاستجاب لها الإله آنو، لكن جلجامش وأنكيدو تمكنا من الثور الإلهي وقتلاه، وبذلك انتهت آخر العلامات المناصرة للألوهة المؤنثة. وباختفائها انسحبت عشتار من ساحة الصراع وبدأت السلطة الشمسية/ البطرياركية إنتاج ثقافتها الدالة على مرحلة جديدة.وإذ أراد جلجامش أن يقدم أمثولة للخلود، فإن جواد سليم كثيراً ما تحدث عن هذه الفكرة، والفن هو وسيلته في ذلك إزاء الموت المحتم، وفي مذكراته “مرآة وجهي” يقول: “أريد أن أعيش. أريد أن أشبع من الحياة، أريد الحياة بحلوها ومرها. إنني وإن كنت سأعمل شيئاً في المستقبل أو أكون شيئاً لكني سأموت بعد هذا الإجهاد الهائل والعمل المضني، أموت وأنا لا أعرف الحياة، لا أعتقد أي قيمة ستعطى لي، أهو الخلود أم الشهرة بعد ضياع العمر. إنني سوف أموت ككل البشر، ولكني لن أعيش ككل البشر”.ويصف جبرا إبراهيم جبرا نصب الحرية بأنه “يتكون من أربع عشرة وحدة من البرونز، في كل منها شخصان أو أكثر، وينتشر على أفريز طوله خمسين متراً، وعلو منحوتاته ثمانية أمتار”، وهي رائعة نحتية تروي قصة الإنسان في العراق من خلال سعيه إلى التحرر من الاستعمار.
::. جواد سليم
وينتقد جواد سليم الذائقة الفنية السائدة للجمهور والنقاد فيقول: “إن الزمرة التي تتذوق الفن والتصوير من جمهورنا تفرض إرادتها بصورة عجيبة، هؤلاء يريدوننا أن نرسم تفاحة ونكتب تحتها (تفاحة)، ومنظر الغروب على دجلة وتحتها (الغروب)، أو فتاة جميلة ويجب أن تكون جميلة لأن الفن جميل وتحتها نكتب بخط جميل: الانتظار. والفنان الحق يجب أن يعرف ماذا يرسم ولماذا هو يرسم، فماذا تعني صورة نخيل رسمت كما يراها الفوتوغراف؟…”.
والفن لدى جواد سليم “لغة، وهذه اللغة يجب أن نتعرف عليها ولو قليلاً، ماذا يحاول المصور في كلماته هذه مثلاً، وكلماته هي الألوان والخطوط والحجوم؟ وهذه اللغة: إنها تستعمل نفس الكلام ولكن في قالب جديد يتبع مؤثرات العصر الحديث. ففي الشعر مثلاً لم يعد أمراً طبيعياً أن يقرض الشاعر اليوم شعراً كالشعر الجاهلي. والتصوير في مختلف عصوره يتقارب في نقاط أساسية هي جمال الألوان.. جمال الخطوط.. وجمال الأشكال مجتمعة كلها لتعبر تعبيرا صادقا عن ناحية من نواحي تحسس الفنان لكل عصر..”.ويرى “أن الفن الحديث هو فن العصر، والتعقيد فيه ناتج عن تعقيد العصر، إنه يعبر عن أشكال كثيرة: القلق، الخوف، التباين الهائل في أكثر الأشياء، المجازر البشرية، وابتعاد الانسان عن الله، ثم النظرة الجديدة إلى الأشياء بما أحدثته النظريات الجديدة في علم النفس وفي باقي العلوم…”.
لوحات الفنان جواد سليم:• عائلة بغدادية، 1953.• أطفال يلعبون، 1954.• زخارف هلالية، 1955.• الزفـّة، 1956.• موسيقيون في الشارع، 1956.• بغداديات، 1957.• كيد النساء، 1957.• امرأة ودلة، 1957.• ليلة الحناء، 1957.• بائع الشتلات، 1957.• امرأة تتزين، 1957.• صبيان يأكلان الرقي، 1958.• الفتاة والبستاني، 1958.• القيلولة، 1958.• الشجرة القتيلة، 1958.• فتاة وحمامة، 1958.• مسجد الكوفة، 1958.• الخيّاطة، 1958.• في محفل الخليفة، 1958.
الثلاثاء، 3 فبراير 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق