الثلاثاء، 3 فبراير 2009


في وثيقة نادرة من وثائق جمعية أصدقاء الفن يعود تاريخها إلى عام 14/3/1941 موجهة إلى عدد من الصحف اليومية البغدادية في تلك الفترة يرد ما يلي :
- قبل مدة دعيت الهيئة العامة لجمعية أصدقاء الفن لحضور حفلة التعارف التي أقامتها هيئة إدارة الجمعية في دار أحد أعضائها السيد جواد سليم وقد حضرها معظم الأعضاء وكلهم من ابرز فناني العاصمة وأساتذة الرسم والنحت في مقدمتهم الأستاذ عبد القادر رسام (عضو شرف) والحاج محمد سليم (عضو شرف أيضا) والأستاذ شوكت سليمان .
و تنتهي الوثيقة بما يأتي :
- ثم راح الحاضرون بعد ذلك يتجولون بين غرف دار السيد جواد للتفرج على أعماله الفنية البديعة من تماثيل ورسوم ومن الصدف أن كانت في الدار بعض رسوم الأستاذ الكبير عبد القادر رسام والتي لفتت أنظار جميع الحاضرين لدقة صنعها وبديع ألوانها وبعد تناول الشاي أخذت صورة للحاضرين كتذكار لاجتماعهم الأول وكان اطرف ما تخلل الحفلة رسم صورة خيالية اشترك في صنعها جميع الموجودين .
وفي وثيقة أخرى نقرأ :
- تتشرف هيئة إدارة جمعية أصدقاء الفن بدعوة حضرتكم لحضور الحفلة التي تقيمها في دار الحاج محمد سليم الواقعة في منطقة الفضل رقم (78/56) وذلك بمناسبة معرضها السنوي القادم ، فالرجاء تشريفكم الساعة الخامسة زوالية من مساء يوم الخميس القادم الموافق 2/10/1941 .
واتخذنا من هذه الوثيقة دليلا للبحث عن بيت جواد سليم والتعرف عليه كوجود مادي . ولكن من المؤسف انه كان اختفى منذ سنين طويلة وبالتحديد حين تمت إقامة شارع الجمهورية في الخمسينات وينتهي الزقاق الذي يفترض إن البيت يقع فيه بالدارين 125/56 من جهة اليسار و 112أ/56 من اليمين وكلاهما مهجور . أما البيت نفسه فيقع تخمينا ضمن بناية البريد في باب المعظم التي تعرضت إلى ثلاث ضربات مدمرة متتالية خلال حرب عام 1991 ثم أعيد بناؤها.
ترى هل يشكل البيت نفسه كوجود مادي أهمية استثنائية بتاريخه وبنوعية العلاقات والفعاليات الاجتماعية والثقافية التي تمت بين جدرانه ؟ أم إن المهم هو ما تولد عنه ( باعتباره مركزا لهوامش عديدة ) من إنجاز روحي ومادي تمثل في الشواهد الأولى على بواكير الوعي لفئة اجتماعية قدر لها أن تؤسس وتقود وتطور تيارا فنيا لم يكن موجودا أصلا وتغنيه بالتجارب والأفكار والرؤى.
إن البيت الذي اختفى وهو بيت الطفولة والصبا الذي سكنه جواد وبالمقابل سكن هذا البيت كنسق ومؤثرات ونمط علاقات مخيلة جواد و لا وعيه قد انتقل مكانيا من زقاق قديم إلى أنحاء عديدة في المدينة نفسها التي بدأت تغير شكلها وطرز العلاقات الاجتماعية والروحية السائدة فيها في الفترة بين حربين كونيتين وبدأت تستعيد شيئا من بريق مجدها وتستيقظ من سبات سبعة قرون مظلمة . وتنقل البيت كمحتوى مادي بين مدارج حلم وحقيقة خلال حياة جواد وبعد موته لينتهي إلى غرفة واسعة ذات جناحين في الطابق الثاني من بيت بغدادي ضم أعمالا مختارة لجيل الرسامين الأوائل في العراق ومن تبعهم أطلق عليه تسمية متحف الرواد وكان البيت أصلا مسكنا لعبد الرحمن النقيب أول رئيس للوزراء بعد تأسيس الحكم الوطني عام 1921. كانت غرفة جواد فيه تضم أشياءه الشخصية وأوراقه وكتبه وأدواته التي يعمل بها. ثم نقل المتحف بموجوداته نهاية الثمانينيات إلى دائرة الفنون بعد اكتشاف سرقة وتزوير لوحة من مقتنياته لتختفي غرفة جواد وتنتقل من وجودها المادي إلى مشاهد غائمة بعيدة وأحيلت مكوناتها وعناصر تميزها إلى أحد السراديب ثم تفرقت هذه المكونات بعد ذلك بل قل اختفت ولم يعرف مصيرها حتى الآن . وسنسعى هنا إلى استعادة صورة هذه الغرفة بل صورها المختلفة عبر التنقيب في طبقات تذكرية وإعادة تأليف أبعادها و جدرانها مما يتوفر من مادة خام ، سنسعى إلى ذلك باعتبار ان غرفة جواد سليم أينما كانت هي مأوى الأحلام وملاذ المشاريع والأفكار والخطط التي نضجت تدريجيا وعبر معاناة وعذابات وصلت إلى مشارف الجنون ثم الموت عن 41 عاما فقط ( ولد جواد في أنقرة عام 1920 وتوفي في بغداد في 23 كانون أول 1961) لتتجسد أخيرا في جدارية عملاقة من البرونز بلغ عرضها 50 مترا وارتفاعها 10 أمتار سميت أولا نصب 14 تموز ثم اصطلح على تسميتها فيما بعد نصب الحرية وهذه الجدارية هي العمل الكبير الذي يمثل خلاصة تجربة جواد ونزوعه الإنساني ويصف اكتشافاته الأسلوبية والمعرفية قبل أن تضم جسده غرفة الوجود الأخيرة أو غرفة الفناء في الوجود أو قبل فترة وجيزة من اضطراره إلى أن يسكنها وحيدا إلى الأبد .
* يتذكر الكاتب والرسام نزار سليم الشقيق الأصغر لجواد و الذي توفي عام 1978 مشاهد أولى موجزة من صبا جواد :
- لا اعرف طفولة جواد ولكن يفاعة شبابه كانت حافلة بالمفاجآت لي وكانت كلها عوالم جديدة ، كنا نتصارع معا في غرفة الضيوف وكان يراسل مجلة (الثقافة الجسمانية) ويمارس تمارين تطويل القامة ، و كنت أراه مختليا أحيانا مع سعاد شقيقنا الأكبر بعد رشاد - الذي رحل مبكرا- في الغرفة الكبيرة وجسم سعاد مدهون بالزيت ومن حولهما أسلاك الكهرباء والمصابيح وجواد خلف آلة التصوير التي تشبه الاوكرديون يحسب على أطراف أصابعه الوقت ليلتقط صورة سعاد عاريا إلا من وزرة أو أجدهما سوية على السطح في عز الصيف وخلف سعاد ستارة سوداء ليلتقط له جواد (ثلاث وضعيات) في صورة واحدة ، كان جواد يزجي وقت فراغه في المتابعة والتطلع إلى كل ما هو جديد حتى انه اخرج فيلما مع بعض أصدقائه وهو ما يزال في بداية شبابه ، كان جواد كثير الصمت و لكن صمته لم يكن كئيبا وإنما هو صمت المفكر السارح وكان سريع البديهة ، حاضر النكتة ، مرح الروح ، له أسلوبه الخاص في سرد النوادر .
· ويرسم الشاعر بلند الحيدري صورة لغرفة جواد من زاوية أخرى:
- خربشت قصيدة في غرفته : هنا في غرفة الفنان لا عمر ولا زمن . وقلت في قصيدة أخرى ضاحكة : هنا المرح الوجه جواد كوكب الفن . ولكن جواد ظلَّ ينظر لي من علٍ ، يصغي إلى حديثي ولا يستمع إليه .
عندما أتذكر جواد تتلاحق صور كثيرة في ذهني ، غرفة جواد الصغيرة ، المطلة على زقاق ضيق ، ألوان قاتمة تغطي شخوص صوره المعلقة على الجدار ، اسطوانات واسطوانات ، أوراق على الأرض فيها جزء من يد أو أجزاء من إنسان ودواوين فرنسية أنيقة وسلم مظلم يصعد من جانب الباب إلى غرفته ، كنت اصعد إليها مرارا كل يوم واهبط منها وذات مرة صعدت السلم لأعزي بوفاة والده وبيد مرتعشة صافحت يده ….
· ثم يتحدث عن بيت جواد بعد زواجه من الإنكليزية لورنا عام 1950:
- تحولت داره الصغيرة إلى ستوديو لعمله ، تتناثر في جوانبها قصاصات أوراق تحمل أجزاءً من صوره أو أشتاتاً من فكره ولم يكن في هذه الدار أي شيء مقيما بشكل نهائي فقد يصبح الكرسي منضدة وقد تصبح المنضدة كرسياً وقد تتحول ربطة عنق أنيقة إلى قطعة قماش لتنظيف فرش الألوان .
· ويتذكر الرسام عيسى حنا صديق طفولة جواد وزميله في المدرسة الابتدائية انهما حاولا معا أن يجربا الرسم بالزيت في غرفته ولكنها كانت تجربة فاشلة فأشار عليهما الحاج سليم الذي كان هاويا للرسم بالذهاب إلى بيت عبد القادر رسام ليعلمهما ذلك وقد وقفا أمام هذا الشيخ الذي يرتدي ثوبا ممزقا وتلطخ يديه آثار مرض جلدي وهو منشغل برسم إحدى اللوحات وفي ضوء توجيهاته رسم جواد أولى لوحاته الزيتية وهي عبارة عن بورتريه لسيده نقله عن مجلة فرنسية ويفترض إن اللوحة موجودة الآن ضمن المجموعة الدائمة لمتحف الرواد . ويتذكر حنا انهما عملا معا في زاوية ضيقة تحت سلم المدرسة المأمونية سميت تجاوزا بالمرسم وإن جوادا حين كان في الصف السادس الابتدائي اشترك في المعرض الصناعي الذي أقيم عام 1932 والذي اشتمل للمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر على جناح للأعمال الفنية عرض فيه جواد تمثالا صغيرا وحصل على الجائزة الثانية في المعرض إذ حجبت الجائزة الأولى . يتذكر أيضا انهما كانا يذهبان معا إلى بيت ساطع الحصري حيث تعرفا على أعمال كبار الفنانين العالميين واستمعا إلى موسيقى بيتهوفن وشوبان ومن خلال هذا المنفذ تعرفا على مفاهيم جديدة للفن يجهلانها دفعتهما للخروج إلى الطبيعة والحياة الشعبية واستلهام موضوعاتهما في الأزقة والأسواق وتسجيل انطباعاتهما برؤية مباشرة وان اقدم صورة معروفة لجواد تمثله وهو يجلس إلى جانب لوحة قام برسمها عام 1933 له ( أي لعيسى حنا) بأقلام الباستيل . وهو يحتفظ حتى الآن حيث يقيم مغتربا في كندا بأوراق خاصة فيها ملاحظات فنية وأدبية لجواد وتخطيطات ومناظر طبيعية له .
· و تلمح سلوى ساطع الحصري إلى أن غرفة جواد لم تكن في الطابق الثاني بل كانت عبارة عن سرداب (ويا للمفارقة) وان الجو في بيتهم كان رائعا ومليئا بالفن و الموسيقى واللوحات الفنية وان جوادا كان يستطيع على غاية من الدقة والطرافة أن يقلد أي شخص يراه .
· بينما أعاد الرسام والناقد شاكر حسن آل سعيد الذي كان تلميذا ومريدا لجواد وزميلا له في جماعة بغداد للفن الحديث التي أسسها عام 1951 بناء الغرفة من خلال ما تبقى من آثاره في فصل من كتابه (جواد سليم والآخرون – بغداد 1991) :
- تراءت لي كل حضورات الأشياء في متحفه ، غرفته في متحف الرواد كأنها من مسكونات أعماله ، وكنت اقتنعت في الوقت نفسه بأهمية العلاقة الناشئة بين محيط الفنان وفنه كمنطلق آني للكتابة وهكذا اختمرت في ذهني سريعا أهمية البحث في الوشائج التي تربط أعماله ببعضها ثم ما بينها وبين الأشياء التي تحيط به . وهنا اصبح لهاجس أن امنح ذاكرة الأشياء /المقتنيات وما يعتري ذلك من مداخلات سيؤديها الفنان كالرسوم التخطيطية التي يزين بها الكتب في مكتبته أهميته عندي كمصادر للبحث ومصادر للإلهام بالنسبة للفنان نفسه ( ص7 من الكتاب ) .
* إن غرفة جواد سليم قد تنقلت في البيت نفسه وهبطت من خلال السلم الذي يؤدي إلى الطابق العلوي ، إلى مكانها الأخير في سرداب ثم انتقلت من البيت إلى الذاكرة ومن الوجود المكاني المشع والمؤثر إلى حيز للأشياء أو إلى رفوف مخزن لا ندري أين يقع ، في غياب الفنان ماديا وحضوره شاهدا ودليلا إلى حياة إبداعية ظلت تولد أفكارا ومعطيات في الإنجاز الأسلوبي وتتجدد سنة بعد أخرى . وكان جواد يردد باستمرار من خلالها ما قاله في صفحة من مذكراته:
-لا أريد أن أموت ، أريد أن اشبع من الحياة ، أريد الحياة كلها ، حلوها ومرها ، أريد أن أكون ككل إنسان ، كثيرا ما تخطر ببالي هذه الفكرة الغريبة المرة وهي إنني وإن كنت سأعمل شيئا في المستقبل أو أكون شيئا ولكن سأموت بعد هذا الإجهاد الهائل والتعب المضني ، أموت وأنا لا اعرف الحياة.

ليست هناك تعليقات: