الأربعاء، 4 فبراير 2009
الثلاثاء، 3 فبراير 2009
في وثيقة نادرة من وثائق جمعية أصدقاء الفن يعود تاريخها إلى عام 14/3/1941 موجهة إلى عدد من الصحف اليومية البغدادية في تلك الفترة يرد ما يلي :
- قبل مدة دعيت الهيئة العامة لجمعية أصدقاء الفن لحضور حفلة التعارف التي أقامتها هيئة إدارة الجمعية في دار أحد أعضائها السيد جواد سليم وقد حضرها معظم الأعضاء وكلهم من ابرز فناني العاصمة وأساتذة الرسم والنحت في مقدمتهم الأستاذ عبد القادر رسام (عضو شرف) والحاج محمد سليم (عضو شرف أيضا) والأستاذ شوكت سليمان .
و تنتهي الوثيقة بما يأتي :
- ثم راح الحاضرون بعد ذلك يتجولون بين غرف دار السيد جواد للتفرج على أعماله الفنية البديعة من تماثيل ورسوم ومن الصدف أن كانت في الدار بعض رسوم الأستاذ الكبير عبد القادر رسام والتي لفتت أنظار جميع الحاضرين لدقة صنعها وبديع ألوانها وبعد تناول الشاي أخذت صورة للحاضرين كتذكار لاجتماعهم الأول وكان اطرف ما تخلل الحفلة رسم صورة خيالية اشترك في صنعها جميع الموجودين .
وفي وثيقة أخرى نقرأ :
- تتشرف هيئة إدارة جمعية أصدقاء الفن بدعوة حضرتكم لحضور الحفلة التي تقيمها في دار الحاج محمد سليم الواقعة في منطقة الفضل رقم (78/56) وذلك بمناسبة معرضها السنوي القادم ، فالرجاء تشريفكم الساعة الخامسة زوالية من مساء يوم الخميس القادم الموافق 2/10/1941 .
واتخذنا من هذه الوثيقة دليلا للبحث عن بيت جواد سليم والتعرف عليه كوجود مادي . ولكن من المؤسف انه كان اختفى منذ سنين طويلة وبالتحديد حين تمت إقامة شارع الجمهورية في الخمسينات وينتهي الزقاق الذي يفترض إن البيت يقع فيه بالدارين 125/56 من جهة اليسار و 112أ/56 من اليمين وكلاهما مهجور . أما البيت نفسه فيقع تخمينا ضمن بناية البريد في باب المعظم التي تعرضت إلى ثلاث ضربات مدمرة متتالية خلال حرب عام 1991 ثم أعيد بناؤها.
ترى هل يشكل البيت نفسه كوجود مادي أهمية استثنائية بتاريخه وبنوعية العلاقات والفعاليات الاجتماعية والثقافية التي تمت بين جدرانه ؟ أم إن المهم هو ما تولد عنه ( باعتباره مركزا لهوامش عديدة ) من إنجاز روحي ومادي تمثل في الشواهد الأولى على بواكير الوعي لفئة اجتماعية قدر لها أن تؤسس وتقود وتطور تيارا فنيا لم يكن موجودا أصلا وتغنيه بالتجارب والأفكار والرؤى.
إن البيت الذي اختفى وهو بيت الطفولة والصبا الذي سكنه جواد وبالمقابل سكن هذا البيت كنسق ومؤثرات ونمط علاقات مخيلة جواد و لا وعيه قد انتقل مكانيا من زقاق قديم إلى أنحاء عديدة في المدينة نفسها التي بدأت تغير شكلها وطرز العلاقات الاجتماعية والروحية السائدة فيها في الفترة بين حربين كونيتين وبدأت تستعيد شيئا من بريق مجدها وتستيقظ من سبات سبعة قرون مظلمة . وتنقل البيت كمحتوى مادي بين مدارج حلم وحقيقة خلال حياة جواد وبعد موته لينتهي إلى غرفة واسعة ذات جناحين في الطابق الثاني من بيت بغدادي ضم أعمالا مختارة لجيل الرسامين الأوائل في العراق ومن تبعهم أطلق عليه تسمية متحف الرواد وكان البيت أصلا مسكنا لعبد الرحمن النقيب أول رئيس للوزراء بعد تأسيس الحكم الوطني عام 1921. كانت غرفة جواد فيه تضم أشياءه الشخصية وأوراقه وكتبه وأدواته التي يعمل بها. ثم نقل المتحف بموجوداته نهاية الثمانينيات إلى دائرة الفنون بعد اكتشاف سرقة وتزوير لوحة من مقتنياته لتختفي غرفة جواد وتنتقل من وجودها المادي إلى مشاهد غائمة بعيدة وأحيلت مكوناتها وعناصر تميزها إلى أحد السراديب ثم تفرقت هذه المكونات بعد ذلك بل قل اختفت ولم يعرف مصيرها حتى الآن . وسنسعى هنا إلى استعادة صورة هذه الغرفة بل صورها المختلفة عبر التنقيب في طبقات تذكرية وإعادة تأليف أبعادها و جدرانها مما يتوفر من مادة خام ، سنسعى إلى ذلك باعتبار ان غرفة جواد سليم أينما كانت هي مأوى الأحلام وملاذ المشاريع والأفكار والخطط التي نضجت تدريجيا وعبر معاناة وعذابات وصلت إلى مشارف الجنون ثم الموت عن 41 عاما فقط ( ولد جواد في أنقرة عام 1920 وتوفي في بغداد في 23 كانون أول 1961) لتتجسد أخيرا في جدارية عملاقة من البرونز بلغ عرضها 50 مترا وارتفاعها 10 أمتار سميت أولا نصب 14 تموز ثم اصطلح على تسميتها فيما بعد نصب الحرية وهذه الجدارية هي العمل الكبير الذي يمثل خلاصة تجربة جواد ونزوعه الإنساني ويصف اكتشافاته الأسلوبية والمعرفية قبل أن تضم جسده غرفة الوجود الأخيرة أو غرفة الفناء في الوجود أو قبل فترة وجيزة من اضطراره إلى أن يسكنها وحيدا إلى الأبد .
* يتذكر الكاتب والرسام نزار سليم الشقيق الأصغر لجواد و الذي توفي عام 1978 مشاهد أولى موجزة من صبا جواد :
- لا اعرف طفولة جواد ولكن يفاعة شبابه كانت حافلة بالمفاجآت لي وكانت كلها عوالم جديدة ، كنا نتصارع معا في غرفة الضيوف وكان يراسل مجلة (الثقافة الجسمانية) ويمارس تمارين تطويل القامة ، و كنت أراه مختليا أحيانا مع سعاد شقيقنا الأكبر بعد رشاد - الذي رحل مبكرا- في الغرفة الكبيرة وجسم سعاد مدهون بالزيت ومن حولهما أسلاك الكهرباء والمصابيح وجواد خلف آلة التصوير التي تشبه الاوكرديون يحسب على أطراف أصابعه الوقت ليلتقط صورة سعاد عاريا إلا من وزرة أو أجدهما سوية على السطح في عز الصيف وخلف سعاد ستارة سوداء ليلتقط له جواد (ثلاث وضعيات) في صورة واحدة ، كان جواد يزجي وقت فراغه في المتابعة والتطلع إلى كل ما هو جديد حتى انه اخرج فيلما مع بعض أصدقائه وهو ما يزال في بداية شبابه ، كان جواد كثير الصمت و لكن صمته لم يكن كئيبا وإنما هو صمت المفكر السارح وكان سريع البديهة ، حاضر النكتة ، مرح الروح ، له أسلوبه الخاص في سرد النوادر .
· ويرسم الشاعر بلند الحيدري صورة لغرفة جواد من زاوية أخرى:
- خربشت قصيدة في غرفته : هنا في غرفة الفنان لا عمر ولا زمن . وقلت في قصيدة أخرى ضاحكة : هنا المرح الوجه جواد كوكب الفن . ولكن جواد ظلَّ ينظر لي من علٍ ، يصغي إلى حديثي ولا يستمع إليه .
عندما أتذكر جواد تتلاحق صور كثيرة في ذهني ، غرفة جواد الصغيرة ، المطلة على زقاق ضيق ، ألوان قاتمة تغطي شخوص صوره المعلقة على الجدار ، اسطوانات واسطوانات ، أوراق على الأرض فيها جزء من يد أو أجزاء من إنسان ودواوين فرنسية أنيقة وسلم مظلم يصعد من جانب الباب إلى غرفته ، كنت اصعد إليها مرارا كل يوم واهبط منها وذات مرة صعدت السلم لأعزي بوفاة والده وبيد مرتعشة صافحت يده ….
· ثم يتحدث عن بيت جواد بعد زواجه من الإنكليزية لورنا عام 1950:
- تحولت داره الصغيرة إلى ستوديو لعمله ، تتناثر في جوانبها قصاصات أوراق تحمل أجزاءً من صوره أو أشتاتاً من فكره ولم يكن في هذه الدار أي شيء مقيما بشكل نهائي فقد يصبح الكرسي منضدة وقد تصبح المنضدة كرسياً وقد تتحول ربطة عنق أنيقة إلى قطعة قماش لتنظيف فرش الألوان .
· ويتذكر الرسام عيسى حنا صديق طفولة جواد وزميله في المدرسة الابتدائية انهما حاولا معا أن يجربا الرسم بالزيت في غرفته ولكنها كانت تجربة فاشلة فأشار عليهما الحاج سليم الذي كان هاويا للرسم بالذهاب إلى بيت عبد القادر رسام ليعلمهما ذلك وقد وقفا أمام هذا الشيخ الذي يرتدي ثوبا ممزقا وتلطخ يديه آثار مرض جلدي وهو منشغل برسم إحدى اللوحات وفي ضوء توجيهاته رسم جواد أولى لوحاته الزيتية وهي عبارة عن بورتريه لسيده نقله عن مجلة فرنسية ويفترض إن اللوحة موجودة الآن ضمن المجموعة الدائمة لمتحف الرواد . ويتذكر حنا انهما عملا معا في زاوية ضيقة تحت سلم المدرسة المأمونية سميت تجاوزا بالمرسم وإن جوادا حين كان في الصف السادس الابتدائي اشترك في المعرض الصناعي الذي أقيم عام 1932 والذي اشتمل للمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر على جناح للأعمال الفنية عرض فيه جواد تمثالا صغيرا وحصل على الجائزة الثانية في المعرض إذ حجبت الجائزة الأولى . يتذكر أيضا انهما كانا يذهبان معا إلى بيت ساطع الحصري حيث تعرفا على أعمال كبار الفنانين العالميين واستمعا إلى موسيقى بيتهوفن وشوبان ومن خلال هذا المنفذ تعرفا على مفاهيم جديدة للفن يجهلانها دفعتهما للخروج إلى الطبيعة والحياة الشعبية واستلهام موضوعاتهما في الأزقة والأسواق وتسجيل انطباعاتهما برؤية مباشرة وان اقدم صورة معروفة لجواد تمثله وهو يجلس إلى جانب لوحة قام برسمها عام 1933 له ( أي لعيسى حنا) بأقلام الباستيل . وهو يحتفظ حتى الآن حيث يقيم مغتربا في كندا بأوراق خاصة فيها ملاحظات فنية وأدبية لجواد وتخطيطات ومناظر طبيعية له .
· و تلمح سلوى ساطع الحصري إلى أن غرفة جواد لم تكن في الطابق الثاني بل كانت عبارة عن سرداب (ويا للمفارقة) وان الجو في بيتهم كان رائعا ومليئا بالفن و الموسيقى واللوحات الفنية وان جوادا كان يستطيع على غاية من الدقة والطرافة أن يقلد أي شخص يراه .
· بينما أعاد الرسام والناقد شاكر حسن آل سعيد الذي كان تلميذا ومريدا لجواد وزميلا له في جماعة بغداد للفن الحديث التي أسسها عام 1951 بناء الغرفة من خلال ما تبقى من آثاره في فصل من كتابه (جواد سليم والآخرون – بغداد 1991) :
- تراءت لي كل حضورات الأشياء في متحفه ، غرفته في متحف الرواد كأنها من مسكونات أعماله ، وكنت اقتنعت في الوقت نفسه بأهمية العلاقة الناشئة بين محيط الفنان وفنه كمنطلق آني للكتابة وهكذا اختمرت في ذهني سريعا أهمية البحث في الوشائج التي تربط أعماله ببعضها ثم ما بينها وبين الأشياء التي تحيط به . وهنا اصبح لهاجس أن امنح ذاكرة الأشياء /المقتنيات وما يعتري ذلك من مداخلات سيؤديها الفنان كالرسوم التخطيطية التي يزين بها الكتب في مكتبته أهميته عندي كمصادر للبحث ومصادر للإلهام بالنسبة للفنان نفسه ( ص7 من الكتاب ) .
* إن غرفة جواد سليم قد تنقلت في البيت نفسه وهبطت من خلال السلم الذي يؤدي إلى الطابق العلوي ، إلى مكانها الأخير في سرداب ثم انتقلت من البيت إلى الذاكرة ومن الوجود المكاني المشع والمؤثر إلى حيز للأشياء أو إلى رفوف مخزن لا ندري أين يقع ، في غياب الفنان ماديا وحضوره شاهدا ودليلا إلى حياة إبداعية ظلت تولد أفكارا ومعطيات في الإنجاز الأسلوبي وتتجدد سنة بعد أخرى . وكان جواد يردد باستمرار من خلالها ما قاله في صفحة من مذكراته:
-لا أريد أن أموت ، أريد أن اشبع من الحياة ، أريد الحياة كلها ، حلوها ومرها ، أريد أن أكون ككل إنسان ، كثيرا ما تخطر ببالي هذه الفكرة الغريبة المرة وهي إنني وإن كنت سأعمل شيئا في المستقبل أو أكون شيئا ولكن سأموت بعد هذا الإجهاد الهائل والتعب المضني ، أموت وأنا لا اعرف الحياة.
“ساحة التحرير” الميدان الأشهر ببغداد يبرز العمل الفني النحتي “نصب الحرية” للفنان جواد سليم المولود في سنة 1920 بأنقرة من عائلة مولعة بالفن؛ فأبوه سليم الموصلي فنان تشكيلي ووالدته البغدادية نحاتة وجميع أخوته فنانون تشكيليون.
في سنة 1931 فاز جواد سليم بالجائزة الفضية في النحت في أول معرض للفنون ببغداد، وفي عام 1938 أرسل في بعثة دراسية إلى باريس في معهد “البوزار”، وبعد عام انتقل إلى روما. وبعد عودته إلى بغداد عمل مدرساً للنحت في معهد الفنون الجميلة ومرمماً للتحف الآشورية والسومرية، وفي عام 1946 واصل دراسته الفنية في انكلترا على يد الفنان “هنري مور” في مدرسة “سليد” بلندن، وعندما عاد إلى بغداد في عام 1949 بصحبة زوجته الانكليزية الفنانة “لورنا سليم” عمل مرة أخرى في معهد الفنون الجميلة وأسس قسم النحت. وفي عام 1951 أسس “جماعة الفن الحديث” مع مجموعة من الفنانين.
عمله الأهم “نصب الحرية” بدأ بدراسات أولية في عام 1959 بطلب من رئيس جمهورية العراق آنذاك عبدالكريم قاسم الذي أراده نصباً للثورة، “وأوحى له أنه يريد وضع صورته فيه، لكن جواد سليم أراد من النصب أن يمثل ثورة أرادها الشعب” وذلك كما يورد الفنان طلال معلا. بعد سنة سافر إلى فلورنسا بإيطاليا لصب أجزاء النصب. وفي مطلع عام 1961 عاد إلى بغداد، وفي أثناء عمله في تركيب قطع النصب في أماكنها بساحة التحرير أصيب بنوبة قلبية.. وبعد عشرة أيام توفي في 23 يناير 1961.
::. جواد سليم ونوري الراوي
اتسمت تجربته بالقلق والتمرد، وتبلورت من أسئلة جوهرية حيال التراث والمعاصرة، فكلمته الشهيرة “الشك أساس اليقين” وأيضاً كلمته “لا تهمني السياسة بقدر الإنسان” كانتا أساس بحثه في هذه المواضيع. وقد استلهم جواد سليم لوحاته البغدادية من نسيج رسوم الواسطي مستثمراً بعض الرموز البغدادية الإسلامية كالأهلة والأقواس والأبواب، ومن المعطيات التاريخية والروحية للناس والأمكنة، واستوحى أجواء حكايات “ألف ليلة وليلة” التي رسم عدداً من موضوعاتها، وتتصف لوحاته بالبعد عن الزخرفة والتزويق.لكن استثمار جواد سليم للهلال لم يكن بتأثيرات إسلامية فقط وإنما كان -الهلال- رمزاً للإله “نانا” السومري الذي تمثل في كل حضارات الشرق والعالم. فالهلال أو القمر يرتبط كمنظومة رمزية بسلطة الألوهة المؤنثة وبنظام الخصب والانبعاث، فالخصوبة لا يمكن عزلها عن المرأة والزراعة، واهتمامه بالخصب يؤكد بقاء هذه المنظومة وإن تغيرت العلامات الدالة عليها كما في لوحة “الشجرة القتيلة” حيث يمارس الرجل -الذي يمثل السلطة الشمسية- عنفاً مادياً ورمزياً على الشجرة بتقطيعها لتعطيل الوظائف الزراعية أو الأنثوية أو القمرية، فتواجه الأنثى الكارثة بالبكاء والحزن، وينتهي الصراع بانتصار الرجل باقتطاعه لأغصان الشجرة. لكنه ليس انتصاراً ناجزاً، فالأم ببطنها المنتفخ، وجذور الشجرة التي ظلت ممتدة في الأرض تشيران إلى الخصب وتعبر عن الدورة الانبعاثية مرة أخرى.
ومن العناصر الأسطورية التي استثمرها جواد سليم في أعماله الفنية: الثور المتمركز في نصب الحرية، فالثور هو رمز للقوة، لكنه أيضاً عنصر في نظام الخصب وله علاقة بالألوهة المؤنثة. فعندما دخل جلجامش مدينة (أوروك) مع صديقه أنكيدو عائداً من نصره على غابة الأرز وهي رمز للأم الكبرى، التقى جلجامش بالإلهة عشتار فتوسلت له أن يقترن بها ويمنحها بذرته فلم يستجب، بل إنه تحدث معها بقسوة، فأدركت عشتار بأن القطيعة حصلت بينهما، فطلبت من أبيها آنو أن ينزل لها الثور السماوي كي ينتقم من جلجامش وأنكيدو، فاستجاب لها الإله آنو، لكن جلجامش وأنكيدو تمكنا من الثور الإلهي وقتلاه، وبذلك انتهت آخر العلامات المناصرة للألوهة المؤنثة. وباختفائها انسحبت عشتار من ساحة الصراع وبدأت السلطة الشمسية/ البطرياركية إنتاج ثقافتها الدالة على مرحلة جديدة.وإذ أراد جلجامش أن يقدم أمثولة للخلود، فإن جواد سليم كثيراً ما تحدث عن هذه الفكرة، والفن هو وسيلته في ذلك إزاء الموت المحتم، وفي مذكراته “مرآة وجهي” يقول: “أريد أن أعيش. أريد أن أشبع من الحياة، أريد الحياة بحلوها ومرها. إنني وإن كنت سأعمل شيئاً في المستقبل أو أكون شيئاً لكني سأموت بعد هذا الإجهاد الهائل والعمل المضني، أموت وأنا لا أعرف الحياة، لا أعتقد أي قيمة ستعطى لي، أهو الخلود أم الشهرة بعد ضياع العمر. إنني سوف أموت ككل البشر، ولكني لن أعيش ككل البشر”.ويصف جبرا إبراهيم جبرا نصب الحرية بأنه “يتكون من أربع عشرة وحدة من البرونز، في كل منها شخصان أو أكثر، وينتشر على أفريز طوله خمسين متراً، وعلو منحوتاته ثمانية أمتار”، وهي رائعة نحتية تروي قصة الإنسان في العراق من خلال سعيه إلى التحرر من الاستعمار.
::. جواد سليم
وينتقد جواد سليم الذائقة الفنية السائدة للجمهور والنقاد فيقول: “إن الزمرة التي تتذوق الفن والتصوير من جمهورنا تفرض إرادتها بصورة عجيبة، هؤلاء يريدوننا أن نرسم تفاحة ونكتب تحتها (تفاحة)، ومنظر الغروب على دجلة وتحتها (الغروب)، أو فتاة جميلة ويجب أن تكون جميلة لأن الفن جميل وتحتها نكتب بخط جميل: الانتظار. والفنان الحق يجب أن يعرف ماذا يرسم ولماذا هو يرسم، فماذا تعني صورة نخيل رسمت كما يراها الفوتوغراف؟…”.
والفن لدى جواد سليم “لغة، وهذه اللغة يجب أن نتعرف عليها ولو قليلاً، ماذا يحاول المصور في كلماته هذه مثلاً، وكلماته هي الألوان والخطوط والحجوم؟ وهذه اللغة: إنها تستعمل نفس الكلام ولكن في قالب جديد يتبع مؤثرات العصر الحديث. ففي الشعر مثلاً لم يعد أمراً طبيعياً أن يقرض الشاعر اليوم شعراً كالشعر الجاهلي. والتصوير في مختلف عصوره يتقارب في نقاط أساسية هي جمال الألوان.. جمال الخطوط.. وجمال الأشكال مجتمعة كلها لتعبر تعبيرا صادقا عن ناحية من نواحي تحسس الفنان لكل عصر..”.ويرى “أن الفن الحديث هو فن العصر، والتعقيد فيه ناتج عن تعقيد العصر، إنه يعبر عن أشكال كثيرة: القلق، الخوف، التباين الهائل في أكثر الأشياء، المجازر البشرية، وابتعاد الانسان عن الله، ثم النظرة الجديدة إلى الأشياء بما أحدثته النظريات الجديدة في علم النفس وفي باقي العلوم…”.
لوحات الفنان جواد سليم:• عائلة بغدادية، 1953.• أطفال يلعبون، 1954.• زخارف هلالية، 1955.• الزفـّة، 1956.• موسيقيون في الشارع، 1956.• بغداديات، 1957.• كيد النساء، 1957.• امرأة ودلة، 1957.• ليلة الحناء، 1957.• بائع الشتلات، 1957.• امرأة تتزين، 1957.• صبيان يأكلان الرقي، 1958.• الفتاة والبستاني، 1958.• القيلولة، 1958.• الشجرة القتيلة، 1958.• فتاة وحمامة، 1958.• مسجد الكوفة، 1958.• الخيّاطة، 1958.• في محفل الخليفة، 1958.
تصف لورنا جواد عند بدء العلاقة بينهما بأنه فنان بوهيمي في ثيابه وفي تصرفاته وأقواله، ولهذا السبب لم يكن يبدو عراقياً بشكل واضح، بل كان يحاول الابتعاد عن أنماط التصرفات التقليدية للطلبة العرب، ويسعى إلى رسم شخصية خاصة به متفتحة على كل ما هو جديد ومختلف. انجذبت لورنا إلى ذلك الطالب الذي لا يشبه الآخرين، والميال ميلاً شديداً الى الفكاهة والمهتم بالموسيقى والشعر وحفلات الباليه. لقد أدركت منذ لقائها الأول به أنها أمام شخص تستطيع أن تثق به، وليس من طبعه التضليل، وشعرت بأنه صادق ومنفتح جداً على الأصدقاء، بحيث إن صداقتها له نمت بالتدريج حتى أصبح حباً.
وعندما حان وقت عودته إلى العراق في العام 1949، قال للورنا إنه يرغب في الزواج بها، وذهب ليطلبها من أبيها “حسب الأصول”. ولعل تلك واحدة من المرات القليلة التي سار فيها جواد وفق التقاليد المرعية، بكل طيب خاطر.
وبعد اقترانها بجواد، قيل للورنا إن اللياقة تقضي بأن تذهب مع الأسرة لزيارة الأميرة راجحة، شقيقة الملك السابق غازي وعمة الملك الصغير فيصل الثاني. والهدف من زيارة المجاملة تلك تقديم الكنة الجديدة إلى الأميرة التي ترتبط وأسرة جواد بقرابة عن طريق المصاهرة. وهناك كان جواد مثل الذي يؤدي دوراً لا يناسبه إطلاقاً. وقد عبّر فيما بعد عن ضيقه بتلك الواجبات التي تتطلب منه الوقوف كلما دخلت إحدى الأميرات إلى الصالون أو خرجت منه، والتخاطب بعبارات المجاملة واستعمال ألقاب التفخيم التركية.
في تلك الفترة بدأ بإطلاق لحيته، وهو أمر غير معروف بين أوساط الفنانين، لكنه يرى في تلك اللحية إضافة أخرى تقربه من صورة الفنان الساهي عن العادات اليومية. وتتذكر ذهابهما إلى العديد من الحفلات التي تقام في السفارات الأجنبية، لإحتساء كأس أو كأسين، بثياب العمل، فلا ينفر منه أحد ، بل يستقبله أصحاب الدعوة بحفاوة خاصة ويفرحون به باعتباره الفنان المغاير للآخرين.
::. بلقيس شرارة تتزين بأقراط فضية صنعها جواد على شكل أهلة متحركة
وتصف لورنا جواداً بأنه كان زوجاً عاطفياً، ناعماً، يشاكسها أحياناً بعبارات خشنة على سبيل المزاح، مثل أي ممثل بارع. معاً، مرحا وضحكا كثيراً. لا تذكر أنه غازلها غزلاً مباشراً، لكنها تحفظ ما تعتبره أجمل عبارة قالها عنها، وإن لم تسمعها منه. لقد كتب بالعربية في دفتر يومياته أن “لورنا هي أروع إنسانة في حياتي، لقد ساندتني وكانت وفية”. وعندما قرأ جبرا ابراهيم جبرا دفتر اليوميات بعد رحيل جواد، ترجم لها تلك العبارة، فبكت أسفاً لأنها لم تتعلم العربية لتقرأها بنفسها. هو أيضاً ساندها وكان وفياً، لم يتركها تشعر يوماً بالقلق أو بالغيرة من امرأة أخرى، لقد رسم نساء حسناوات بينهن من كانت ذات شهرة ومكانة اجتماعية أو أدبية، لكن لورنا لم تخْشَ منهن على زوجها، فقد كانت ترى، بعين الفنانة، أن أولئك النسوة كنّ جميلات بالفعل، ويطيب للفنان أن يرسمهن. وثقت به لأنها كانت متأكدة من حبه لها ولابنتيه، ولم يكن يزعجها أن يخرج وحيداً للترويح عن نفسه، نافية احتمال أن يكون عاش مغامرات عاطفية خارج البيت، لقد كان في رأيها زوجاً مستقيماً، ولم يخب إحساسها منذ أدركت في لقائها الأول به في لندن أنها إزاء رجل يمكن الوثوق به.
كان متعدد المواهب مأخوذاً بتلك الدوامة الجميلة، فبالإضافة إلى عمله في الرسم والنحت والموسيقى، كان يحب الباليه والمسرح، ويجد لذة في عمل الماكياج للممثلين في مسرحيات معهد الفنون. والعيش مع زوج مثله، كان يجعل لورنا في حالة إنذار على مدى النهار والليل، فقد كان يطلع عليها كل يوم بفكرة جديدة أو مشروع مبتكر.
نصب الحرية
تقول لورنا بأن فكرة نصب الحرية جاءت من المهندس المعماري رفعة الجادرجي، لقد اقترح رفعة إقامة جدار عريض مرتفع، في ساحة من ساحات بغداد الكبرى، على هيئة بوابة عالية أو لافتة تستند من جانبيها على الأرض. وكان المطلوب من جواد نحت مشهد بارز من مادة البرونز يعلق على صدر اللافتة. أما جواد، فلم يكن يريد النصب مرتفعاً ومعلقاً بعيداً عن المارة. أراده قائماً على الأرض في متناول الناس، بحيث يستطيعون الإقتراب منه وتفحّصه عن كثب وتلمس منحوتاته بالأيدي. خشي رفعة، في حالة وضع النصب بمستوى الشارع، أن يتسلقه الصبية، أو أن يكتب المارة أسماءهم فوقه. لكن هذه الفكرة لم تزعج جواداً، إذ كان يرى أن كل نصب يكتسب مزيداً من الجمال عندما يترك الناس بصماتهم عليه، مثل الآثار العالمية المزينة بأسماء آلاف السياح والتواريخ المحفورة عليها، دون أن يفسد ذلك جلالها أو قيمتها الفنية. وفي محاولة أخيرة لإقناع رفعة، اقترح جواد إقامة بركة مائية أمام النصب، تمنع العابثين من الوصول إلي، وقال إن انعكاس المنحوتات على صفحة الماء سيكون مثيراً. حسم رفعة الجادرجي الجدل قائلاً إنه تمكن بصعوبة بالغة من إقناع المسؤولين بفكرة نصب كبير كهذا، وبالتالي فإنه يخشى أن يصرفوا النظر عن الفكرة إذا تضاربت حولها الآراء. بعد هذه الحجة، وافق جواد على إقامة النصب كما يريدون، واستُدعي إلى مقابلة عبدالكريم قاسم للاستماع إلى توجيهاته قبل البدء بالتصميم. وخرج من المقابلة شديد الارتياح والإعجاب بشخصية قاسم، لكنه تأكد أن الرجل ليس رجل سياسة، وأنه سيجد صعوبة في التعامل مع أهلها. وخلافاً لما أشيع، توضح لورنا أن عبدالكريم قاسم لم يطلب من جواد أن يضع صورته وسط الجدارية، كما زعم بعضهم. لكن بعض المنافقين المحيطين بقاسم اقترحوا عليه أن توضع صورته في قلب الشمس السومرية التي تتوسط النصب. ويبدو أنه لم يخضع للاقتراح بدليل أن الصورة لم توضع في النهاية.
::. جزء من نصب الحرية
هناك من يقول إن جواد مات في الوقت المناسب، بعد أن أنجز أعظم أعماله “نصب الحرية”، ودخل في فضاء الأسطورة. أما هي فليست من هذا الرأي، فقد كانت شهرته على وشك أن تتفتح خارج بلاده، ولو امتد به العمر لقدّم أعمالاً مذهلة.
شهادات
يتضمن الكتاب في نهايته شهادات عديدة لأشخاص عرفوا جواد سليم، منها شهادة للفنان”فائق حسن” الذي قال عن جواد بأنه كان “مأخوذاً بكل ما تستطيع أن تبدعه يد الانسان، فقد طلب مني ذات يوم أن أجلس أمامه وأشبك كفّيّ لكي ينحت لهما تمثالاً. قال لي إن هاتين اليدين الخشنتين تستحقان التخليد لأنهما تجيدان الرسم والنحت والنجارة والبناء والطلاء والطبخ والخياطة والبستنة. وخلال إنجاز التمثال الذي احتفظ به في بيتي، ذكرى عزيزة من صديقي الراحل، جاء أحد الزملاء من الفنانين وسأل جواداً: لماذا تنحت يدي فائق… وليس وجهه؟ ونظر جواد إلى السائل نظرته الباردة الشهيرة وأجاب: وهل تستحق كل الأيدي أن تسمى كذلك…؟”.
::. فائق حسن وأمامه يداه اللتان نحتهما جواد
أما رفعة الجادرجي فيقول بأنه لم يقابل في حياته عربياً يتمتع بالليبرالية التي كان يتمتع بها جواد. إن المرأة بالنسبة لجواد هي رفيق مساوٍ له كلياً، بدون أي تكلف، وهذه صفة نادرة جداً عند الرجل العربي.
لورنا.. لا تزال كلما مرت بعازف غيتار على الرصيف، تتمهل لتضع في علبته قطعة نقدية، إرضاء لجواد الذي يتابعها من هناك، حيث هو اليوم.
جواد سليم
ولد عام 1920 في انقرة
درس النحت في باريس عام 1938 /1939 وفي روما عام 1939/1940 وفي لندن عام 1946/1949
رأس قسم النحت في معهد الفنون الجميلة ببغداد حتى وفاته 22 كانون الثاني 1961 .
أسس جماعة بغداد للفن الحديث .
احد مؤسسي جمعية التشكيليين العراقيين.
وضع عبر بحثه الفني المتواصل أسس مدرسة عراقية في الفن الحديث .
حقق نصب الحرية القائم في ساحة التحرير ببغداد وهو من اهم النصب الفنية في الشرق الاوسط.
توفي في شهر كانون الثاني عام 1961.
صدرت عدة بحوث عنه وعن فنه خاصة بحث السيد عباس الصراف الذي نشرته وزارة الاعلام.
أقيم معرض شامل لاعماله في المتحف الوطني للفن الحديث بعد وفاته ببضع سنوات.
Born in Ankara (Turkey), 1920.
Studied Sculpture in Paris, (1938-1939), Rome (1939-1940) and London (1946-1949).
Was the Head of the ( Sculpture dept.) in the institute of fine Arts, Baghdad until his death.
Founded the Group of Baghdad for modern Art, also founder of new Baghdad School of Modern Art.
His Monument Liberty located in one of the most prominent monument in the Mid-East.
A founding member of the Iraqi Artist society.