الثلاثاء، 3 فبراير 2009

دراسات كثيرة تناولت نتاج جواد سليم الفني، لكن القليل منها تناول نظرة هذا الفنان للحياة. وبين يدينا كتاب “لورنا.. سنواتها مع جواد سليم”، حيث تناولت “إنعام كجَه جي” حياة لورنا سليم مع زوجها جواد بدءً من تعارفهما في سليد سكول بلندن، واستعرضت أبرز مراحل العلاقة بينهما، وفي ثنايا هذه العلاقة نكتشف جواد سليم الإنسان.
تصف لورنا جواد عند بدء العلاقة بينهما بأنه فنان بوهيمي في ثيابه وفي تصرفاته وأقواله، ولهذا السبب لم يكن يبدو عراقياً بشكل واضح، بل كان يحاول الابتعاد عن أنماط التصرفات التقليدية للطلبة العرب، ويسعى إلى رسم شخصية خاصة به متفتحة على كل ما هو جديد ومختلف. انجذبت لورنا إلى ذلك الطالب الذي لا يشبه الآخرين، والميال ميلاً شديداً الى الفكاهة والمهتم بالموسيقى والشعر وحفلات الباليه. لقد أدركت منذ لقائها الأول به أنها أمام شخص تستطيع أن تثق به، وليس من طبعه التضليل، وشعرت بأنه صادق ومنفتح جداً على الأصدقاء، بحيث إن صداقتها له نمت بالتدريج حتى أصبح حباً.
وعندما حان وقت عودته إلى العراق في العام 1949، قال للورنا إنه يرغب في الزواج بها، وذهب ليطلبها من أبيها “حسب الأصول”. ولعل تلك واحدة من المرات القليلة التي سار فيها جواد وفق التقاليد المرعية، بكل طيب خاطر.
وبعد اقترانها بجواد، قيل للورنا إن اللياقة تقضي بأن تذهب مع الأسرة لزيارة الأميرة راجحة، شقيقة الملك السابق غازي وعمة الملك الصغير فيصل الثاني. والهدف من زيارة المجاملة تلك تقديم الكنة الجديدة إلى الأميرة التي ترتبط وأسرة جواد بقرابة عن طريق المصاهرة. وهناك كان جواد مثل الذي يؤدي دوراً لا يناسبه إطلاقاً. وقد عبّر فيما بعد عن ضيقه بتلك الواجبات التي تتطلب منه الوقوف كلما دخلت إحدى الأميرات إلى الصالون أو خرجت منه، والتخاطب بعبارات المجاملة واستعمال ألقاب التفخيم التركية.
في تلك الفترة بدأ بإطلاق لحيته، وهو أمر غير معروف بين أوساط الفنانين، لكنه يرى في تلك اللحية إضافة أخرى تقربه من صورة الفنان الساهي عن العادات اليومية. وتتذكر ذهابهما إلى العديد من الحفلات التي تقام في السفارات الأجنبية، لإحتساء كأس أو كأسين، بثياب العمل، فلا ينفر منه أحد ، بل يستقبله أصحاب الدعوة بحفاوة خاصة ويفرحون به باعتباره الفنان المغاير للآخرين.
::. بلقيس شرارة تتزين بأقراط فضية صنعها جواد على شكل أهلة متحركة
وتصف لورنا جواداً بأنه كان زوجاً عاطفياً، ناعماً، يشاكسها أحياناً بعبارات خشنة على سبيل المزاح، مثل أي ممثل بارع. معاً، مرحا وضحكا كثيراً. لا تذكر أنه غازلها غزلاً مباشراً، لكنها تحفظ ما تعتبره أجمل عبارة قالها عنها، وإن لم تسمعها منه. لقد كتب بالعربية في دفتر يومياته أن “لورنا هي أروع إنسانة في حياتي، لقد ساندتني وكانت وفية”. وعندما قرأ جبرا ابراهيم جبرا دفتر اليوميات بعد رحيل جواد، ترجم لها تلك العبارة، فبكت أسفاً لأنها لم تتعلم العربية لتقرأها بنفسها. هو أيضاً ساندها وكان وفياً، لم يتركها تشعر يوماً بالقلق أو بالغيرة من امرأة أخرى، لقد رسم نساء حسناوات بينهن من كانت ذات شهرة ومكانة اجتماعية أو أدبية، لكن لورنا لم تخْشَ منهن على زوجها، فقد كانت ترى، بعين الفنانة، أن أولئك النسوة كنّ جميلات بالفعل، ويطيب للفنان أن يرسمهن. وثقت به لأنها كانت متأكدة من حبه لها ولابنتيه، ولم يكن يزعجها أن يخرج وحيداً للترويح عن نفسه، نافية احتمال أن يكون عاش مغامرات عاطفية خارج البيت، لقد كان في رأيها زوجاً مستقيماً، ولم يخب إحساسها منذ أدركت في لقائها الأول به في لندن أنها إزاء رجل يمكن الوثوق به.
كان متعدد المواهب مأخوذاً بتلك الدوامة الجميلة، فبالإضافة إلى عمله في الرسم والنحت والموسيقى، كان يحب الباليه والمسرح، ويجد لذة في عمل الماكياج للممثلين في مسرحيات معهد الفنون. والعيش مع زوج مثله، كان يجعل لورنا في حالة إنذار على مدى النهار والليل، فقد كان يطلع عليها كل يوم بفكرة جديدة أو مشروع مبتكر.
نصب الحرية
تقول لورنا بأن فكرة نصب الحرية جاءت من المهندس المعماري رفعة الجادرجي، لقد اقترح رفعة إقامة جدار عريض مرتفع، في ساحة من ساحات بغداد الكبرى، على هيئة بوابة عالية أو لافتة تستند من جانبيها على الأرض. وكان المطلوب من جواد نحت مشهد بارز من مادة البرونز يعلق على صدر اللافتة. أما جواد، فلم يكن يريد النصب مرتفعاً ومعلقاً بعيداً عن المارة. أراده قائماً على الأرض في متناول الناس، بحيث يستطيعون الإقتراب منه وتفحّصه عن كثب وتلمس منحوتاته بالأيدي. خشي رفعة، في حالة وضع النصب بمستوى الشارع، أن يتسلقه الصبية، أو أن يكتب المارة أسماءهم فوقه. لكن هذه الفكرة لم تزعج جواداً، إذ كان يرى أن كل نصب يكتسب مزيداً من الجمال عندما يترك الناس بصماتهم عليه، مثل الآثار العالمية المزينة بأسماء آلاف السياح والتواريخ المحفورة عليها، دون أن يفسد ذلك جلالها أو قيمتها الفنية. وفي محاولة أخيرة لإقناع رفعة، اقترح جواد إقامة بركة مائية أمام النصب، تمنع العابثين من الوصول إلي، وقال إن انعكاس المنحوتات على صفحة الماء سيكون مثيراً. حسم رفعة الجادرجي الجدل قائلاً إنه تمكن بصعوبة بالغة من إقناع المسؤولين بفكرة نصب كبير كهذا، وبالتالي فإنه يخشى أن يصرفوا النظر عن الفكرة إذا تضاربت حولها الآراء. بعد هذه الحجة، وافق جواد على إقامة النصب كما يريدون، واستُدعي إلى مقابلة عبدالكريم قاسم للاستماع إلى توجيهاته قبل البدء بالتصميم. وخرج من المقابلة شديد الارتياح والإعجاب بشخصية قاسم، لكنه تأكد أن الرجل ليس رجل سياسة، وأنه سيجد صعوبة في التعامل مع أهلها. وخلافاً لما أشيع، توضح لورنا أن عبدالكريم قاسم لم يطلب من جواد أن يضع صورته وسط الجدارية، كما زعم بعضهم. لكن بعض المنافقين المحيطين بقاسم اقترحوا عليه أن توضع صورته في قلب الشمس السومرية التي تتوسط النصب. ويبدو أنه لم يخضع للاقتراح بدليل أن الصورة لم توضع في النهاية.
::. جزء من نصب الحرية
هناك من يقول إن جواد مات في الوقت المناسب، بعد أن أنجز أعظم أعماله “نصب الحرية”، ودخل في فضاء الأسطورة. أما هي فليست من هذا الرأي، فقد كانت شهرته على وشك أن تتفتح خارج بلاده، ولو امتد به العمر لقدّم أعمالاً مذهلة.
شهادات
يتضمن الكتاب في نهايته شهادات عديدة لأشخاص عرفوا جواد سليم، منها شهادة للفنان”فائق حسن” الذي قال عن جواد بأنه كان “مأخوذاً بكل ما تستطيع أن تبدعه يد الانسان، فقد طلب مني ذات يوم أن أجلس أمامه وأشبك كفّيّ لكي ينحت لهما تمثالاً. قال لي إن هاتين اليدين الخشنتين تستحقان التخليد لأنهما تجيدان الرسم والنحت والنجارة والبناء والطلاء والطبخ والخياطة والبستنة. وخلال إنجاز التمثال الذي احتفظ به في بيتي، ذكرى عزيزة من صديقي الراحل، جاء أحد الزملاء من الفنانين وسأل جواداً: لماذا تنحت يدي فائق… وليس وجهه؟ ونظر جواد إلى السائل نظرته الباردة الشهيرة وأجاب: وهل تستحق كل الأيدي أن تسمى كذلك…؟”.
::. فائق حسن وأمامه يداه اللتان نحتهما جواد
أما رفعة الجادرجي فيقول بأنه لم يقابل في حياته عربياً يتمتع بالليبرالية التي كان يتمتع بها جواد. إن المرأة بالنسبة لجواد هي رفيق مساوٍ له كلياً، بدون أي تكلف، وهذه صفة نادرة جداً عند الرجل العربي.
لورنا.. لا تزال كلما مرت بعازف غيتار على الرصيف، تتمهل لتضع في علبته قطعة نقدية، إرضاء لجواد الذي يتابعها من هناك، حيث هو اليوم.

ليست هناك تعليقات: